احداث غزوة الفرقان
عناصر المحتوي
مقالات قد تهمك
سبب تسمية غزوة الفرقان بهذا الاسم وقعت غزوة بدر الكُبرى التي تُعرَف بغزوة الفُرقان في السابع عشر من رمضان من العام الثاني للهجرة، ولم تكن غزوةً عاديّةً كسائر الغزوات في ذلك الزمن، بل كانت فُرقاناً بين الحقّ والباطل؛ بين الإيمان والكُفر؛ حيث التقى أهل الحقّ القِلّةُ المُستضعَفون بأتباع الكُفر والباطل؛ أصحاب المَنَعة، والقوّة الماديّة، وكثرة الرجال والعتاد، فأيّد الله -تعالى- أهل الحقّ بعد أن تعلّقت قلوبهم به بنصرٍ حاسمٍ قُسِم به ظهر الباطل وأهله، لتصبح بعدها غزوة الفُرقان عقيدةً، وشِعاراً، ودستوراً للنصر والهزيمة على مَرّ العصور تتناقله الأجيال في كلّ مكانٍ وزمانٍ؛ فقد خلّد الله -تعالى- ذِكرها في القرآن الكريم، فقال: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)،[١][٢] وعلى الرغم من عدم اهتمام القوى العُظمى في ذلك الزمان لحدثٍ بسيطٍ من وجهة نظرهم؛ إذ لم يُعِر الفُرس ولا الروم اهتماماً لمعركةٍ بلغ عدد جنودها ثلاثمئة جنديٍّ مقابل ألف جنديٍّ في بُقعةٍ لا تُكاد تُرى على خريطة العالم، إلّا أنّ غزوة بدر الكُبرى كانت بداية تحوُّلٍ في موازين القُوى في العالم؛ فقد كان النصر المُؤزَّر بداية ولادة أمّةٍ راسخةٍ ثابتةٍ ذات رسالةٍ خالدةٍ، تحمل هَمّ هداية العالم أجمع، وما هي إلّا سنين بعد المعركة حتى أصبحت أمّة الإسلام خير أمّةٍ أُخرِجت للناس؛ قال -تعالى- (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).[٣][٤]
سبب تسمية الغزوة بالفرقان
سُمِّيت معركة بدر الكُبرى بغزوة الفُرقان؛ لأنّ الله -تعالى- فرّق بها بين الحقّ والباطل، وبين عهد الاستضعاف والصبر والمُصابرة على أذى المشركين، وعهد القوّة والانطلاق والدعوة إلى الله -تعالى- ونشر الحقّ، وقد أعطى الله -تعالى- هذه المعركة مكانةً عظيمةً؛ إذ سمّاها في القرآن الكريم بالفُرقان؛ لقَوْله -تعالى-: (وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ وَاللَّـهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ).[٥][٦]
عدد المسلمين والمشركين في غزوة الفرقان
لم يكن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ينوي قتال المشركين عندما خرج إلى موقع بدرٍ، إلّا أنّ الله -تعالى- قَدَّر اللقاء والقتال؛ لقوله -تعالى-: (إِذ أَنتُم بِالعُدوَةِ الدُّنيا وَهُم بِالعُدوَةِ القُصوى وَالرَّكبُ أَسفَلَ مِنكُم وَلَو تَواعَدتُم لَاختَلَفتُم فِي الميعادِ وَلـكِن لِيَقضِيَ اللَّـهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا)،[٧] ولذلك كان عدد المسلمين ثلاثمئة وخمسة مقاتلين، وكان ذلك أوّل خروجٍ للأنصار مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، أمّا المشركون فقد استعدّوا للقتال منذ البداية، وخرجوا بجيش قَوامه ألف مقاتلٍ،[٨] وقِيل إنّ عددهم كان بين التسعمئة والألف، إلّا أنّ الله -تعالى- قلّل أعدادهم في عيون المؤمنين؛ ليُثبّت قلوبهم، ويُقوّي عزائمهم؛ لقوله -تعالى-: (وَإِذ يُريكُموهُم إِذِ التَقَيتُم في أَعيُنِكُم قَليلًا وَيُقَلِّلُكُم في أَعيُنِهِم لِيَقضِيَ اللَّـهُ أَمرًا كانَ مَفعولًا وَإِلَى اللَّـهِ تُرجَعُ الأُمورُ)،[٩] وورد عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّه قال: (لقدِ قَلُّوا في أَعيُنِنا حتَّى قُلتُ لِرجلٍ إلى جَنبِي: أَتراهُم سَبعينَ؟ فقال: أَراهُمْ مِائَةً، حتَّى أَخذْنَا رَجلًا [مِنهُم] فَسألْنَاهُ فقالَ: كُنَّا أَلفًا).[١٠][١١]
أحداث غزوة الفرقان
خروج المسلمين إلى أرض المعركة
بلغ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلّم- خبرُ تحرُّك قافلةٍ كبيرةٍ لقريش بقيادة أبي سفيان، وفيها أموالٌ عظيمةٌ، يحرسها ثلاثون أو أربعون مقاتلاً، فأرسل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رجلاً من الصحابة يُدعى بسبس بن عمرو -رضي الله عنه-؛ لاستطلاع أمر القافلة، فلمّا رجع مُؤكّداً الخبر، قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- للمسلمين: (هذه عيرُ قُريشٍ، فيها أموالُهم، فاخرُجوا إليها، لعلَّ اللهَ يُنفِلُكُموها)،[١٢] وخرج -عليه الصلاة والسلام- بمَن تجهّز سريعاً من الصحابة -رضي الله عنهم-، فخرج معه مئة من المهاجرين، ومِئتان وبضعٌ من الأنصار، ولذلك لم يكن جيش المسلمين بكامل قوّته واستعداده، لا سيّما أنّهم خروجوا لأخذ القافلة لا لقتال قريش.[١٣]
ويُشار إلى أنّ من المواقف التي حدثت قبل المعركة، والتي تدلّ على عِظَم احترام النبيّ -عليه الصلاة والسلام- للمواثيق والعهود أنّه رَدّ حذيفة بن اليمان ووالده اليمان -رضي الله عنهما-، ولم يسمح لهما بالقتال؛ لأنّهما كانا قد أعطيا عهداً لقريش بعدم القتال، ومن المواقف التي بيّن فيها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- طبيعة العداوة بين الإسلام والكفر، ورسّخ من خلاله عقيدة الولاء والبراء في صدور أصحابه أنّه رَدّ أحد المقاتلين المشركين لمّا خرج جيش المسلمين، وكان قد لَحِق بهم يريد الانضمام إليهم والقتال معهم، فرَدّه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قائلاً: (ارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ)،[١٤] إلّا أنّ ذلك الفارس أصرّ على الالتحاق بهم، فرَدّه النبيّ -عليه الصلاة والسلام- مرّةً أخرى، فأسلم الرجل، وانضمّ إلى المسلمين، ولم يكن مع المسلمين إلّا فَرَسان، وسبعون بعيراً، فكان يتعاقب على البعير الواحد الرجلان والثلاثة، فضرب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أروع الأمثلة بمشاركة القائد لجنوده المتاعب والآلام في أرض المعركة، إذ كان يتعاقب على البعير مع عليّ بن أبي طالب وأبي لبابة -رضي الله عنهما-، فقالا: (نحن نمْشي عنكَ فقال: ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجرِ منْكما).[١٥][١٣]
تحرُّك قريش
بينما كان المسلمون في الطريق إلى القافلة، وصل الخبر إلى أبي سفيان، فأسرع بتغيير طريق سَيْر القافلة من الطريق الرئيسيّ إلى طريق الساحل، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ، وبعثه إلى مكّة؛ ليستصرخَ قريشاً فيخرجوا مُدافعين عن القافلة، ويحموها من المسلمين، ولمّا بلغ الخبر أهل مكّة خرجوا مُسرعين، ولم يتخلّف من كبرائهم غير أبي لهب؛ إذ أرسل مكانه رجلاً له دَيْنٌ عليه، ولم يكتفوا بالخروج بكلّ رجالهم؛ بل استعانوا بالقبائل المحيطة بهم أيضاً، ولم يكن هدفهم حماية القافلة فحسب، بل استئصال المسلمين، والقضاء على دعوتهم أيضاً، وقد وصف الله -تعالى- حالتهم في القرآن الكريم، فقال: (وَلا تَكونوا كَالَّذينَ خَرَجوا مِن دِيارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبيلِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ بِما يَعمَلونَ مُحيطٌ).[١٦][١٧][١٣]
وبينما كان كفّار قريش في طريقهم إلى بدر، استطاع أبو سفيان النجاة بالقافلة بعدما سلك طريق الساحل، فأرسل إليهم يُخبرهم بما حصل، ويأمرهم بالعودة إلى مكّة، ووصلت الأخبار وكان جيش الكفّار في الجُحفة، وقرّر كبراء قريش العودة، إلّا أنّ أبا جهل رفض ذلك، وقال: “والله لا نرجع حتى نَرِد بدراً فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً، فامضوا”، ومضى الجيش على رأي أبي جهلٍ إلّا الأخنس بن شُريق؛ كبير بني زُهرة، وطالب بن أبي طالب؛ فقد خالفوا رأيه ورجعوا إلى مكّة، وسار جيش الكفّار إلى أن نزل بالقُرب من بدرٍ خلف كثيبٍ يقع بالعُدوة القُصوى.[١٧][١٣]
مجلس شورى المسلمين
وصل المسلمون إلى بدرٍ، فعلموا بتغيير أبي سفيان لطريق القافلة، والسير نحو الساحل، وبخروج جيش قريش لقتالهم، فخشيَ فريقٌ من المؤمنين لقاء العدوّ؛ لأنّهم لم يتجهّزوا للقتال عند خروجهم، وجادلوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بالأمر، فأنزل الله -تعالى- قَوْله: (كَما أَخرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَريقًا مِنَ المُؤمِنينَ لَكارِهونَ*يُجادِلونَكَ فِي الحَقِّ بَعدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرونَ*وَإِذ يَعِدُكُمُ اللَّـهُ إِحدَى الطّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم وَتَوَدّونَ أَنَّ غَيرَ ذاتِ الشَّوكَةِ تَكونُ لَكُم وَيُريدُ اللَّـهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقطَعَ دابِرَ الكافِرينَ)،[١٨] ثمّ عقد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مجلساً؛ ليُشاور الصحابة -رضي الله عنهم- في القتال، فقام أبو بكر -رضي الله عنه-، وتكلّم فأحسن الكلام، وقام عمر -رضي الله عنه-، وأحسن الكلام، ثمّ قام المقداد بن عمرو -رضي الله عنه- فقال: (يا رسولَ اللهِ، امضِ لما أمرك اللهُ به، فنحن معك، واللهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو إسرائيلَ لموسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهبْ أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، فوالَّذي بعثك بالحقِّ، لو سِرتَ بنا إلى بَرْكِ الغَمادِ -يعني مدينةَ الحبشةِ- لجالدنا معك مَن دونَه حتَّى تبلُغَه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيرًا، ودعا له بخيرٍ).[١٩][١٣][١٧]
وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يريد أن يسمع رأي الأنصار؛ فأعاد طلب المشورة من الصحابة، فقال له سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: (واللهِ لكأنَّك تريدُنا يا رسولَ اللهِ؟ قال: أجل. قال: فقد آمنَّا بك، وصدَّقناك، وشهِدنا أنَّ ما جئت به هو الحقُّ، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السَّمعِ والطَّاعةِ، فامضِ يا رسولَ اللهِ لما أمرك اللهُ. فوالَّذي بعثك بالحقِّ، إن استعرضتَ بنا هذا البحرّ فخضتَه لخضناه معك، ما يتخلَّفُ منَّا رجلٌ واحدٌ، وما نكرهُ أن تَلقَى بنا عدوَّنا غدًا، إنَّا لصُبُرٌ في الحربِ، صُدُقٌ عند اللِّقاءِ، ولعلَّ اللهَ يريك منَّا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركةِ اللهِ)،[١٩] فاستبشر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بما سمعه من أصحابه -رضي الله عنهم-، ووعدهم بالنصر، حيث قال: (سيروا على بركةِ اللهِ وأبشروا، فإنَّ اللهَ قد وعدني إحدَى الطَّائفتين، واللهِ لكأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القومِ)،[١٩] ثمّ سار المسلمون حتى نزلوا في منطقةٍ تُسمّى (الصفراء) بالقُرب من بدرٍ.[١٧][١٣]
الاستعداد للمعركة
قرّر المسلمون قتال الكفّار، فساروا إلى أن اقتربوا من مياه بدرٍ، واستشار النبيّ -عليه الصلاة والسلام- الصحابة بموقع نزول الجيش، فأشار عليه الخباب بن المنذر -رضي الله عنه- بالنزول على بئر بدرٍ؛ ليشرب جيش المسلمين، ولا يجد جيش الكفّار ما يشربونه، فأقرّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رأي الخباب، وأمر -عليه الصلاة والسلام- كلّاً من الزبير بن العوّام، وعليّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقّاص بالخروج إلى موقعٍ بالقُرب من معسكر الكفّار؛ ليتحسّسوا أخبار العدوّ، فرجعوا بعبدَين لقريش، وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يصلّي عند عودتهم، ولمّا انتهى استجوبهما، وعرف منهما عدد جيش قريش، وأنّ في الجيش أغلب أشراف مكّة، فقال للصحابة: (تَقِيءُ الأرْضُ أفْلاذَ كَبِدِها).[٢٠][١٧][١٣]
ثمّ أخذ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يُشير إلى مصارع قادة قريش، فكان مقتل كلّ واحدٍ منهم حيث أشار، وبعد أن استقرّ المسلمون في موقعهم، أقاموا للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- عريشاً على أرضٍ مرتفعةٍ ليكون مَقرّاً للقيادة، وفي ليلة المعركة أنزل الله -تعالى- المَطر؛ ليُثبِّت به أقدام المؤمنين، وأنزل أمانه عليهم، وقد وصف الله -تعالى- حالهم في تلك اللحظة قائلاً: (إِذ يُغَشّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطانِ وَلِيَربِطَ عَلى قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ)،[٢١] وقذف الله -تعالى- في قلوب الكفّار الرُّعب؛ إذ أرسلوا جاسوساً يُدعى عمرو بن وهب الجمحي؛ ليأتيَهم بأخبار المسلمين، فلمّا عاد إليهم قال: “قد رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليس لهم منعةٌ إلّا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجلٌ منهم حتى يقتل رجلاً منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فَرَوْا رأيكم”، فقام عتبة بن ربيعة خطيباً في الكفّار؛ ليُثنيَهم عن القتال، ويُعيدَهم إلى مكّة، فقد كان يرى أنّه لن يُقتَل مسلمٌ إلّا وقد قتل واحداً منهم، فاتّهمه أبو جهل بالخوف والجُبن، ووقع الخِلاف في صفوفهم.[١٧][١٣]
بَدء القتال ومُجرَيات المعركة
تقابل الجَمعان في أرض بدرٍ؛ صَفّ الحقّ والهدى والإيمان يُقابله صفّ الباطل والطغيان، وأخذ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يُنظّم صفوف المسلمين، ويَشحذ الهِمَم، وأمرَ الجند بعدم رَمْي السِّهام إلّا عند اقتراب العَدوّ، فقال: (إذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعلَيْكُم بالنَّبْلِ)،[٢٢] وكان من عادة العرب في ذلك الزمان افتتاح المعارك بالمُبارَزة؛ فخرج من المشركين ثلاثة فرسان، هم: عُتبة وشيبة ابنَا ربيعة، والوليد بن عُتبة، فأمر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- عليّاً بن أبي طالب، وعُبيدة بن الحارث، وحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنهم- جميعاً بالتصدّي لهم؛ فقتلَ عليٌّ شيبة، وقتلَ حمزةُ عُتبة، ثمّ أجهز عليٌّ وحمزةُ على الوليد، وحملا عُبيدة وقد قُطِعت رجله، فغضب الكُفّار؛ لقَتْل قادتهم، وأسرعوا بالهجوم، والتحمت الصفوف، وصدح المسلمون بالتكبير، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يدعو ربّه قائلاً: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ ما وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهْلِكْ هذِه العِصَابَةَ مِن أَهْلِ الإسْلَامِ لا تُعْبَدْ في الأرْضِ).[٢٣][١٣][١٧]
وما هي إلّا لحظاتٍ حتى جاء النصر من العزيز الحميد، ونزل المَدَدُ من السماء بألفٍ من الملائكة يُقاتلون مع المؤمنين؛ لقَوْله -تعالى-: (إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ)،[٢٤] وقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وهو خارجٌ من العريش: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)،[٢٥] وقاتل المسلمون قتالاً شديداً، وكان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أشدّهم على الكفّار؛ لِما ورد عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنّه قال: (لقد رأيتُنا يَومَ بدرٍ ونحنُ نَلوذُ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أقرَبُنا إلى العدُوِّ وكان من أشَدِّ الناسِ يومَئِذٍ بأسًا)،[٢٦] وحَمِيَ وطيس المعركة، ومنح الله -تعالى-المؤمنين رقابَ الكفّار، فأثخنوا فيهم قَتْلاً وأَسْراً، وكان مِمَّن قُتِل في غزوة الفُرقان رأس الكُفر أبو جهل؛ عمرو بن هشام؛ إذ قتلَه معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح -رضي الله عنهما-، وقُتِل أيضاً أميّةُ بن خلف الذي كان يُعذّب بلالاً بن رباح -رضي الله عنه- في مكّة.[١٧][١٣]
وعلى الرغم من احتدام المعركة وضراوة القتال، إلّا أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ضرب أروع الأمثلة في الوفاء؛ إذ لم ينسَ الذين أحسنوا إلى المسلمين في مكّة، والذين أُخرِجوا مُكرَهين لقتال المسلمين، فأصدر أمراً بعدم قَتْل أبي البختري بن هشام الذي كان سبباً في نَقْض وثيقة مقاطعة بني هاشم في مكّة، والعبّاس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- الذي نصر النبيّ وآزره في مكّة بعد وفاة عمّه أبي طالب، أمّا جيش قريش الذي افتخر بالعدّة والعتاد ومحاربة الله ورسوله، فقد ولّى هارباً إلى مكّة بعدما شَهِدَ مقتل سبعين من قادته، وأَسْر سبعين آخرين، وبعد انتهاء المعركة، جمعَ المسلمون الغنائم، وأقام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ببَدر ثلاثة أيّامٍ دفنَ فيها شهداء بدرٍ، وعددهم أربعة عشر رجلاً، وأمر النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بسَحب جُثث الكفّار إلى آبار بدرٍ، ثمّ وقف -عليه الصلاة والسلام- على الآبار مُخاطباً صناديد قريش بأسمائهم: (يا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، ويَا فُلَانُ بنَ فُلَانٍ، أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطَعْتُمُ اللَّهَ ورَسولَهُ، فإنَّا قدْ وجَدْنَا ما وعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما تُكَلِّمُ مِن أجْسَادٍ لا أرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، ما أنتُمْ بأَسْمع لِما أقُولُ منهمْ).[٢٧][١٧][١٣]
نتائج غزوة الفرقان
انتهت غزوة الفرقان بانتصارٍ مُؤزَّرٍ للحقّ وأهله، وهزيمةٍ ساحقةٍ للباطل وأهله، ويُمكن بيان بعض النتائج فيما يأتي:[٢٨]
- نصر الإسلام والمسلمين: وقد كان نصراً عظيماً كما ورد في قَوْل الله -تعالى-: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[١]
- هلاك زعماء الكفر: حيث قُتِل في غزوة الفُرقان أبو جهل، وتمّ إعدام عُقبة بن أبي معيط بعد أَسْره بأمرٍ من رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-؛ وذلك لأنّه كان مجرم حربٍ، وكان قد بالغ في إيذاء المسلمين، والاستهزاء بدِين الله في مكّة، كما قُتِل أميّة بن خلف الذي كان يُعذّب الصحابة -رضي الله عنهم- في مكّة، وكان بلال بن رباح -رضي الله عنه- أكثر من عُذِّب على يدَيه، فلمّا رآه أسيراً يوم بدرٍ، استصرخ عليه جماعةً من الانصار، وقال: “رأس الكفر أميّة بن خلف، لا نجوت إن نجا”، ثمّ قتله.
- أَسْر سبعين رجلاً من كفّار قريش: بعد انتهاء المعركة وقع سبعون رجلاً من صناديد قريش في الأَسْر، فاستشار النبيّ -عليه الصلاة والسلام- الصحابة في أمرهم، فرأى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أَخذ الفِدية مقابل إطلاق سراحهم، فينتفع المسلمون بالأموال، ولعلّ الله -تعالى- يهديهم فيما بعد، ورأى عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- قَتْلهم؛ لأنّهم رؤوس الكُفر وصناديده، فأخذ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- برأي أبي بكر -رضي الله عنه-، فنزل قَوْل الله -تعالى-: (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكونَ لَهُ أَسرى حَتّى يُثخِنَ فِي الأَرضِ تُريدونَ عَرَضَ الدُّنيا وَاللَّـهُ يُريدُ الآخِرَةَ وَاللَّـهُ عَزيزٌ حَكيمٌ* لَولا كِتابٌ مِنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فيما أَخَذتُم عَذابٌ عَظيمٌ).[٢٩]
- استشهاد عددٍ من المسلمين: اصطفى الله -تعالى- في معركة بدر أربعة عشر رجلاً من المسلمين، وأكرمهم بالشهادة في سبيله، قال -تعالى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).[٣٠]
- الغنائم: غَنِمً المسلمون يوم الفُرقان غنائم عظيمةً، ولم يكن حُكمها قد شُرِّع بَعد، فأنزل الله -تعالى- قَوْله: (وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّـهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ وَاللَّـهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ).[٣١]
الدروس والعِبر المُستفادة من غزوة الفُرقان
ضرب المسلمون في غزوة الفُرقان أروع الأمثلة في التضحية، والشجاعة، والطاعة، والجهاد في سبيل الله، وفيما يأتي بيان بعض الدروس والعِبر المستفادة من أحداث المعركة:[٣٢]
- حُسْن التعامُل مع الظروف البيئيّة المُحيطة بأرض الغزوة؛ حيث اختار رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- موقعاً يخدم جيش المسلمين في القتال؛ بحيث تكون الشمس في ظهورهم، وفي عيون الكُفّار؛ فتؤثّر في رؤيتهم.
- رَفع معنويّات الجنود في المعركة؛ فقد حَرِص رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على رَفْع الروح المعنوية لجنوده قبل المعركة؛ من خلال تبشيرهم بمَقتل زعماء الكُفر، وقوله حين انطلاق المعركة: (قُومُوا إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ).[٣٣]
- الإبداع والابتكار في الخطط العسكريّة؛ فقد ابتكر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في معركة بدر شكلاً جديداً للقتال لم يكن معروفاً عند العرب من قَبل؛ وهو القتال في صفوفٍ مُنظَّمةٍ.
- الدعاء من أهمّ الأسلحة للنصر على الأعداء، وقد ظهرت قوّة هذا السلاح في غزوة بدر؛ فبَعد أنّ نظّم النبيّ -عليه الصلاة والسلام- صفوف الجيش، وأخذ بالأسباب المادّية، رَجع إلى مَقرّ القيادة، وألحّ على الله -تعالى- بالدعاء، ورفعَ يديه حتى سقط الرداء عن كتفَيه، فاستجاب الله -تعالى- له، وأيّد المسلمين بالملائكة، وقذف في قلوب الكفّار الرُّعب، فكان النصر المُؤزَّر للمسلمين.
- مشاركة القائد آلام المعركة مع الجنود، ووقوفه في خندقهم؛ فقد كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقاتل الكفّار في أرض المعركة بنفسه، ولم يعزل نفسه عن الصحابة -رضي الله عنهم-، بل كان في الصفوف الأماميّة للقتال.
- النصر من الله -تعالى-؛ فقد كانت غزوة الفُرقان درساً عبر الأجيال في بيان أنّ النصر من الله -تعالى-، وإن تأخّر النصر عن المسلمين في مكانٍ أو زمانٍ مُعيّنٍ فالسبب يكمن في عدم أَخْذهم بأسباب النصر.